الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
وما روى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحتها، وهو قول الأوزاعي. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام، ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات، ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها. وقد قرر العلماء أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما لاحتمال صدق كل منهما في وقتها، وقد اشترط عامة النظار في التناقض: اتحاد الزمان، لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها، كما لو قلت: لم يستقبل بيت المقدس قد استقبل بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما بعد النسخ، وبالثانية ما قبله، فكلتاهما تكون صادقة، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف. أعني الإيجاب والسلب، من زمان ومكان، وشرط وإضافة، وقوة وفعل، وتحصيل وعدول، وموضوع ومحمول، وجزء وكل، بقولي: والاتحاد لازم بينهما فيما سوى الكيف كشرط علما والجزء والكل مع المكان والفعل والقوة والزمان إضافة تحصيل أو عدول ووحدة الموضوع والمحمول
فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حرامًا غير الأربعة المذكورة، فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك، فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد. فذلك لا ينافي الحصر الأول لتجدده بعده، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى، وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن منعه أكثر أهل الأصول. وإذا عرفت ذلك: فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا، وأقوال العلماء فيها. فمن ذلك كل ذي ناب من السباع، فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها، وتحريمها، أما حديث أبي ثعلبة، فمتفق عليه، وأما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه مسلم في صحيحه عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: بلفظ "كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام". والأحاديث في الباب كثيرة، وبه تعلم أن التحقيق هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه، ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم: أنه لم يثبت النهي عنه، عنه صلى الله عليه وسلم، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير" اهـ. فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلًا منهما ذو عداء وافتراس، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه. والأصل في النهي التحريم، وبتحريم ذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير. قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود. وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع، وأن مشهور مذهبه الكراهة، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها، والحق التحريم لما ذكرنا. ومن ذلك الحمر الأهلية، فالتحقيق أيضًا أنها حرام، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف: لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهم، وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري، ومسلم: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية" وهذا صريح صراحة تامة في التحريم، ولفظ حديث أنس عندهما أيضًا "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس"، وفي رواية لمسلم "فإنها رجس من عمل الشيطان" وفي رواية له أيضًا "فإنها رجس أو نجس". قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لحوم الحمر الأهلية رجس. صريح في تحريم أكلها، ونجاسة لحمها، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم. والله تعالى أعلم ـ. ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني رضي الله عنه قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله: أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت الحمر الأهلية فقال: "أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" اهـ. والجوال: جمع جالة، وهي التي تأكل الجلة، وهي في الأصل البعر، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة. قال النووي في شرح المهذب: اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث. قال الخطابي: والبيهقي: هو حديث يختلف في إسناده. يعنون مضطربًا، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها. وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضًا. لما رواه أحمد والترمذي من حديث جابر قال: "حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـ يعني يوم خيبر ـ لحوم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطَّير" أصل حديث جابر هذا في الصحيحين كما تقدم. وهو بهذا اللفظ: بسند لا بأس به. قاله ابن حجر والشوكاني. وقال ابن كثير في تفسيره: وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: "ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل"، وهو دليل واضح على تحريم البغال، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعًا. لصحة النصوص بتحريمها. وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء. فمنعها مالك ـ رحمه الله ـ في أحد القولين، وعنه أنها مكروهة، وكل من القولين صححه بعض المالكية، والتحريم أشهر عندهم. وقال أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ أكره لحم الخيل، وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه. وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيها التحريم، وليست عنده كالحمار الأهلي. وصحح عنه صاحب المحيط، وصاحب الهداية، وصاحب الذخيرة: التحريم، وهو قول أكثر الحنفية. وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل الأوزاعي، وأبو عبيد وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وابن عباس والحكم. وبه قال أكثر أهل العلم. وممن قال به عبد الله بن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة، وعلقمة، والأسود، وعطاء، وشريح، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وإسحاق وأبو يوسف، ومحمد، وداود، وغيرهم. كما نقله عنهم النووي، في "شرح المهذب" وسنبين ـ إن شاء الله ـ حجج الجميع وما يقتضي الدليل رجحانه. اعلم أن من منع أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث: أما الآية فقوله تعالى: أحدها: أن اللام للتعليل، أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها يقتضي خلاف ظاهر الآية. ثانيها: عطف البغال والحمير عليها، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم. ثالثها: أن الآية الكريمة سيقت للامتنان، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان. والحكيم لا يمتن بأدنى النعم، ويترك أعلاها، لاسيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة. وأما الحديث: فهو ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لُحُوم الخيل والبغال والحَمِير". ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة. بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقًا، والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم المنع من الآية لما أذن في الأكل، وأيضًا آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل، بل فهم من التعليل، وحديث جابر، وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما. كلاهما صريح في جواز أكل الخيل. والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول. وأيضًا فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة، فهي إنما تدل على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه، أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز. وأيضًا فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة. فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقًا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: "إنا لَم نخلق لهذا. إنا خلقنا للحرث" فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقًا. وأيضًا فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة. ولا قائل بذلك. وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها. فهو استدلال بدلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول. كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله: أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوي المذكور
وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان: فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب. فخوطبوا بما عرفوا وألفوا، ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، وشدة الحاجة إليها في القتال، بخلاف الأنعام: فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال، وللأكل. فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه. فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا. وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها. سبب لفنائها وانقراضها: فيجاب عنه: بأنه أذن في أكل الأنعام لئلا تنقرض، ولو كان الخوف عن ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض، فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل. قاله ابن حجر، وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه: فهو مردود من وجهين: الأول: أنه ضعفه علماء الحديث. فقد قال ابن حجر في (فتح الباري) في باب "لحوم الخيل" ما نصه: "وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون. وقال النووي: في "شرح المهذب" واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم. على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف، وذكر أسانيد بعضهم بذلك. وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب. في إسناده صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب. ضعفه غير واحد، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": لين. وفيه أيضًا: والده يحيى المذكور الذي هو شيخه في هذا الحديث. قال فيه في "التقريب": مستور. الوجه الثاني: أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد. فإنه معارض بما هو أقوى منه كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل"، وفي لفظ في الصحيح "وأذن في لحوم الخيل"، وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: "نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه" متفق عليهما. ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد، وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل، والعلم عند الله تعالى، ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط، كما قال بعض أهل العلم. وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفًا فاستبن
ومن ذلك الكلب: فإن أكله حرام عند عامة العلماء، وعن مالك قول ضعيف جدًا بالكراهة. ولتحريمه أدلة كثيرة. منها: ما تقدم في ذي الناب من السباع. لأن الكلب سبع ذو ناب، ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه، وقد ثبت النهي عن ثمنه في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري، مقرونًا بحلوان الكاهن، ومهر البغي، وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة، وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه، بلفظ "ثمن الكلب خبيث" الحديث. وذلك نص في التحريم لقوله تعالى: فإن قيل: ما كل خبيث يحرم لما ورد في الثوم أنه خبيث، وفي كسب الحجام أنه خبيث. مع أنه لم يحرم واحد منهما. فالجواب: أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلًا على تحريمه، وما أخرجه دليل يخرج، ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه، كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب، والسنة يخرج منها بعض الأفراد بمخصص، وتبقى حجة في الباقي. وهذا مذهب الجمهور، وإليه أشار في (مراقي السعود) بقوله: وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينًا يبن
فإن قيل: تحريم الخبائث لعلة الخبث، وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضًا في العلة لا تخصيصًا لها. فالجواب: أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة، لا إبطال لها. قال في (مراقي السعود): منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
إلخ... كما حررناه في غير هذا الموضع. ومن الأدلة على تحريم الكلب: ما ثبت في الصحيحين من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه، وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم، فلو كان أكله مباحًا، لكان اقتناؤه مباحًا. وإنما رخص صلى الله عليه وسلم، في كلب الصيد، والزرع، والماشية للضرورة. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ كلبًا إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية انتقص من أَجره كل يوم قيراط"، ومنه أيضًا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "من اقتنى كلبًا لا يغنى عنه زرعًا، ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط"، ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ "نقص كل يوم من عمله قيراطان"، وأخرجه مسلم أيضًا عن ابن عمر من طرق: في بعضها قيراط، وفي بعضها قيراطان. والأحاديث في الباب كثيرة وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله، إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل وهو ظاهر، ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن المغفل، رضي الله عنهم. من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها، ولم يرخص صلى الله عليه وسلم فيها إلا لضرورة الصيد، أو الزرع، أو الماشية. وإذا عرفت أن في كلب الصيد، وما ذكر معه بعض المنافع المباحة، كالانتفاع بصيده، أو حراسته الماشية، أو الزرع، فاعلم أن العلماء اختلفوا في بيعه. فمنهم من قال: بيعه تابع للحمه، ولحمه حرام، فبيعه حرام، وهذا هو أظهر الأقوال دليلًا لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث، وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه مقرونًا بحلوان الكاهن، ومهر البغي، وهو نص صحيح صريح في منع بيعه. ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب"، وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه ترابًا. قال النووي في (شرح المهذب):، وابن حجر في (الفتح): إسناده صحيح، وروى أبو داود أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي". قال ابن حجر في (الفتح): إسناده حسن، وقال النووي في (شرح المهذب): إسناده حسن صحيح. وإذا حققت ذلك، فاعلم أن القول بمنع بيع الكلب الذي ذكرنا أنه هو الحق. عام في المأذون في اتخاذه وغيره لعموم الأدلة، وممن قال بذلك: أبو هريرة، والحسن البصري، والأوزاعي، وربيعة، والحكم، وحماد، والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر وغيرهم، وهو المشهور الصحيح من مذهب مالك. خلافًا لما ذكره القرطبي في (المفهم) من أن مشهور مذهبه الكراهة، وروي عن مالك أيضًا جواز بيع كلب الصيد. ونحوه دون الذي لم يؤذن في اتخاذه، وهو قول سحنون. لأنه قال: أبيع كلب الصيد وأحج بثمنه. وأجاز بيعه أبو حنيفة مطلقًا إن كانت فيه منفعة من صيد، أو حراسة لماشية مثلا، وحكي نحوه ابن المنذر عن جابر، وعطاء، والنخعي قاله النووي. وإن قتل الكلب المأذون فيه ككلب الصيد، ففيه القيمة عند مالك، ولا شيء فيه عند أحمد والشافعي، وأوجبها فيه أبو حنيفة مطلقًا إن كانت فيه منفعة. وحجة من قال لا قيمة فيه: أن القيمة ثمن والنص الصحيح نهى عن ثمن الكلب، وجاء فيه التصريح بأن طالبه تملأ كفه ترابًا، وذلك أبلغ عبارة في المنع منه. واحتج من أوجبها بأنه فوت منفعة جائزة فعليه غرمها. واحتج من أجاز بيع الكلب، وألزم قيمته إن قتل بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد"،وعن عمر رضي الله عنه أنه غرم رجلًا عن كلب قتله عشرين بعيرًا وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهمًا، وقضى في كلب ماشية بكبش. واحتجوا أيضًا بأن الكلب المأذون فيه تجوز الوصية به والانتفاع به فأشبه الحمار. وأجاب الجمهور بأن الأحاديث والآثار المروية في جواز بيع كلب الصيد ولزوم قيمته كلها ضعيفة: قال النووي في "شرح المهذب" ما نصه "وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين"، وهكذا أوضح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها، والاحتجاج بجواز الوصية به وشبهه بالحمار مردود بالنصوص الصحيحة المصرحة بعدم حلية ثمنه، وما ذكره ابن عاصم المالكي في "تحفته" من قوله: واتفقوا أن كلاب البادية يجوز بيعها ككلب الماشية
فقد رده عليه رحمه الله علماء المالكية، وقد قدمنا أنه قول سحنون. واعلم أن ما روي عن جابر وابن عمر مرفوعًا مما يدل على جواز بيع كلب الصيد كله ضعيف كما بين تضعيفه ابن حجر في (فتح الباري) في باب "ثمن الكلب". قال القرطبي: وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس. ومن ذلك القرد: فإنه لا يجوز أكله، قال القرطبي في تفسيره: قال أبو عمر يعني ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه. قال: وما علمت أحدًا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب سئل مجاهد عن أكل القرد فقال: ليس من بهيمة الأنعام. قلت: ذكر ابن المنذر أنه قال: روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم. قال: يحكم به ذوا عدل. قال: فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد، وفي "بحر المذهب" للروياني على مذهب الشافعي. وقال الشافعي: يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع اهـ. وقال النووي في "شرح المهذب": القرد حرام عندنا، وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد، ومكحول والحسن وابن حبيب المالكي. وقال ابن قدامة في (المغني): وقال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافًا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه، وروي عن الشعبي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن لحم القرد"، ولأنه سبع، فيدخل في عموم الخبر، ولأنه مسخ أيضًا فيكون من الخبائث المحرمة. وقد قدمنا جزم ابن حبيب، وابن عبد البر من المالكية: بأنه حرام، وقال الباجي: الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه. أنه ليس بحرام. ومن ذلك الفيل: فالظاهر فيه أنه من ذوات الناب من السباع، وقد قدمنا أن التحقيق فيها التحريم لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الجمهور. وممن صححه من المالكية: ابن عبد البر والقرطبي. وقال بعض المالكية كراهته أخف من كراهة السبع، وأباحه أشهب، وعن مالك في المدونة كراهة الانتفاع بالعاج: وهو سن الفيل. وقال ابن قدامة في (المغني): والفيل محرم. قال أحمد: ليس هو من أطعمة المسلمين، وقال الحسن: هو مسخ وكرهه أبو حنيفة، والشافعي، ورخص في أكله الشعبي، ولنا نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وهو من أعظمها نابًا، ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة للخبائث اهـ. وقال النووي في شرح المهذب: الفيل حرام عندنا، وعند أبي حنيفة والكوفيين، والحسن. وأباحه الشعبي، وابن شهاب، ومالك في رواية. وحجة الأولين أنه ذو ناب اهـ. ومن ذلك الهر، والثعلب، والدب: فهي عند مالك من ذوات الناب من السباع. وعنه رواية أخرى أنها مكروهة كراهة تنزيه، ولا تحريم فيها قولًا واحدًا. والهر الأهلي والوحشي عنده سواء. وفرق بينهما غيره من الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة: فمنعوا الأهلي: قال ابن قدامة في (المغني): فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا ومالك وأبي حنيفة والشافعي: وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل الهر، وقال ابن قدامة في (المغني) أيضًا: واختلفت الرواية في الثعلب: فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه. وهذا قول أبي هريرة ومالك وأبي حنيفة لأنه سبع، فيدخل في عموم النهي، ونقل عن أحمد إباحته، واختاره الشريف أبو جعفر، ورخص فيه عطاء وطاوس وقتادة والليث، وسفيان بن عيينة والشافعي، لأنه يفدى في الإحرام والحرم إلى أن قال: واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر، والقول فيه كالقول في الثعلب. وحكى النووي: اتفاق الشافعية على إباحة الثعلب. وقال صاحب (المهذب): وفي سنور الوحش وجهان: أحدهما: لا يحل. لأنه يصطاد بنابه فلم يحل كالأسد والفهد. والثاني: يحل. لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي، فيحرم الأهلي منه، ويحل الوحشي كالحمار. وأما الدب: فهو سبع ذو ناب عند مالك والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة. وقال أحمد: إن كان الدب ذا ناب منع أكله، وإن لم يكن ذا ناب فلا بأس بأكله. واختلف العلماء في جواز أكل الضبع: وهو عند مالك كالثعلب. وقد قدمنا عنه أنه سبع في رواية، وفي أخرى أنه مكروه، ولا قول فيه بالتحريم، والأحاديث التي قدمناها في سورة المائدة بأن الضبع صيد تدل على إباحة أكلها، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع. قاله القرطبي، ورخص في أكلها الشافعي وغيره، وقال البيهقي في السنن الكبرى: قال الشافعي: وما يباع لحم الضباع بمكة إلا بين الصفا والمروة. وحجة مالك في مشهور مذهبه: أن الضبع من جملة السباع، فيدخل في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولم يخص سبعًا منها عن سبع، قال القرطبي: وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي: لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس مشهورًا بنقل العلم ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. قال أبو عمر: وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة، روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار اهـ. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ للمخالف أن يقول أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع، ودليل إباحة الضبع خاص، ولا يتعارض عام وخاص: لأن الخاص يقضي على العام فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول. ومن ذلك القنفذ: فقد قال بعض العلماء بتحريمه، وهو مذهب الإمام أحمد، وأبي هريرة، وأجاز أكله الجمهور. منهم مالك والشافعي والليث وأبو ثور وغيرهم. واحتج من منعه بما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "هو خبيث من الخبائث". واحتج من أباحه ـ وهم الجمهور ـ بأن الحديث لم يثبت، ولا تحريم إلا بدليل. قال البيهقي في السنن الكبرى: ـ بعد أن ساق حديث أبي هريرة المذكور في خبث القنفذ ـ هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف. وممن كره أكل القنفذ. أبو حنيفة وأصحابه. قاله القرطبي وغيره. ومن ذلك حشرات الأرض، كالفأرة، والحيات، والأفاعي، والعقارب، والخنفساء: والعظاية، والضفادع، والجرذان، والوزغ، والصراصير، والعناكب، وسام أبرص، والجعلان، وبنات، وردان، والديدان، وحمار قبان، ونحو ذلك. فجمهور العلماء على تحريم أكل هذه الأشياء لأنها مستخبثة طبعًا، والله تعالى يقول: وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة، وأحمد وابن شهاب وعروة وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى ـ. ورخص في أكل ذلك: مالك، واشتراط في جواز أكل الحيات أن يؤمن سمها. وممن روي عنه الترخيص في أكل الحشرات، الأوزاعي، وابن أبي ليلى، واحتجوا بما رواه أبو داود والبيهقي، من حديث ملقام بن تلب، عن أبيه تلبِّ بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري، رضي الله عنه قال: صحبت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم أسمع لحشرة الأرض تحريمًا. واحتجوا أيضًا بأن الله حرم أشياء، وأباح أشياء، فما حرم فهو حرام، وما أباح فهو مباح، وما سكت عنه فهو عفو. وقالت عائشة، رضي الله عنها في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت قوله تعالى: ويجاب عن هذا بأن ملقام بن تلبّ مستور لا يعرف حاله، وبأن قول أبيه تلبّ بن ثعلبة، رضي الله عنه، لم أسمع لحشرة الأرض تحريمًا لا يدل على عدم تحريمها، كما قاله الخطابي، والبيهقي. لأن عدم سماع صحابي لشيء لا يقتضي انتفاءه كما هو معلوم، وبأنه تعالى لم يسكت عن هذا. لأنه حرم الخبائث، وهذه خبائث لا يكاد طبع سليم يستسيغها، فضلًا عن أن يستطيبها، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب، إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع، كما قال أحد شعرائهم: أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن غريبًا لديكم يأكل الحشرات
والربى جمع ربية، وهي الفأرة. قاله القرطبي، وفي اللسان أنها دويبة بين الفأرة وأم حبين، ولتلك الحاجة الشديدة لما سئل بعض العرب عما يأكلون. قال: كل ما دب ودرج، إلا أم حبين، فقال: لتهن أم حبين العافية. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل الفأرة، وما ذكر معها من الفواسق، فدل ذلك على عدم إباحتها. واعلم أن ما ذكره بعض أهل العلم كالشافعي. من أن كل ما يستخبثه الطبع السليم من العرب الذين نزل القرآن عليهم في غير حال ضرورة الجوع حرام. لقوله تعالى: ولا يقدح في ذلك النص على إباحة بعض المستخبثات، كالثوم. لأن ما أخرجه الدليل يخصص به عموم النص، ويبقى حجة فيما لم يخرجه دليل، كما قدمنا. ويدخل فيه أيضًا كل ما نص الشرع على أنه خبيث، إلا لدليل يدل على إباحته، مع إطلاق اسم الخبث عليه. واستثنى بعض أهل العلم من حشرات الأرض الوزغ، فقد ادعى بعضهم الإجماع على تحريمه، كما ذكره ابن قدامة في (المغني) عن ابن عبد البر. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: ويدل له حديث أم شريك المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ، وكذلك روى الشيخان أيضًا عن حديث سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، موصولًا عند مسلم، ومحتملًا للإرسال عند البخاري، فإن قوله: وزعم سعد بن أبي وقاص أنه أمر بقتله، محتمل لأن يكون من قول عائشة، ومحتمل لأن يكون من قول عروة، وعليهما، فالحديث متصل، ويحتمل أن يكون من قول الزهري، فيكون منقطعًا، واختاره ابن حجر في (الفتح)، وقال: كأن الزهري وصله لمعمر، وأرسله ليونس. اهـ، ومن طريق يونس رواه البخاري، ومن طريق معمر رواه مسلم، وروى مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، الترغيب في قتل الوزغ، وكل ذلك يدل على تحريمه. واختلف العلماء أيضًا في ابن آوى: وابن عرس: فقال بعض العلماء: بتحريم أكلهما، وهو مذهب الإمام أحمد، وأبي حنيفة ـ رحمهما الله تعالى ـ قال في (المغني): سئل أحمد عن ابن آوى، وابن عرس. فقال: كل شيء ينهش بأنيابه من السباع، وبهذا قال أبو حنيفة، وأصحابه اهـ. ومذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ الفرق بينهما، فابن عرس حلال عند الشافعية بلا خلاف، لأنه ليس له ناب قوي، فهو كالضب، واختلف الشافعية في ابن آوى. فقال بعضهم: يحل أكله، لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب. والثاني: لا يحل. لأنه مستخبث كريه الرائحة، ولأنه من جنس الكلاب، قاله النووي، والظاهر من مذهب مالك كراهتهما. وأما الوبر، واليربوع، فأكلهما جائز عند مالك وأصحابه. وهو مذهب الشافعي، وعليه عامة أصحابه، إلا أن في الوبر وجهًا عندهم بالتحريم. وقد قدمنا أن عمر أوجب في اليربوع جفرة، فدل ذلك على أنه صيد، ومشهور مذهب الإمام أحمد أيضًا جواز أكل اليربوع، والوبر. وممن قال بإباحة الوبر عطاء: وطاوس، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وابن المنذر، وأبو يوسف. وممن قال بإباحة اليربوع أيضًا: عروة، وعطاء الخراساني، وأبو ثور، وابن المنذر، كما نقله عنهم صاحب (المغني). وقال القاضي من الحنابلة بتحريم الوبر، قال: في (المغني)، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، إلا أبا يوسف، وقال أيضًا: إن أبا حنيفة. قال: في اليربوع أيضًا هو حرام، وروي ذلك عن أحمد أيضًا، وعن ابن سيرين والحكم، وحماده. لأنه يشبه الفأر، ونقل النووي في (شرح المهذب) عن صاحب البيان عن أبي حنيفة تحريم الوبر، واليربوع، والضب، والقنفذ، وابن عرس. وممن قال بإباحة الخلد والضربوب مالك وأصحابه. وأما الأرنب: فالتحقيق أن أكلها مباح لما ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم "أهدي له عضو من أرنب فقبله"، وفي بعض الروايات "فأكل منه"، وقال ابن قدامة: في (المغني) أكل الأرنب سعد بن أبي وقاص، ورخص فيها أبو سعيد، وعطاء، وابن المسيب، والليث، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. ولا نعلم أحدًا قائلًا بتحريمها، إلا شيئًا روي عن عمرو بن العاص. اهـ. وأما الضب: فالتحقيق أيضًا جواز أكله لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا أو أطعموا فإنه حلال". وقال: "لا بأس به، ولكنه ليس من طعامي" يعني الضب، ولما ثبت أيضًا في الصحيحين من حديث خالد، رضي الله عنه: "أنه أكل ضبًا في بيت ميمونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه"، وقد قدمنا قول صاحب البيان عن أبي حنيفة بتحريم الضب. ونقله في (المغني) عن أبي حنيفة أيضًا، والثوري تحريم الضب، ونقل عن علي النهي عنه، ولم نعلم لتحريمه مستندًا، إلا ما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر، رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "أتي بضب، فأبى أن يأكله" قال: "إني لا أدري لعله من القُرون الأُولى التي مسخت"، وأخرج مسلم نحوه أيضًا من حديث أبي سعيد مرفوعًا، فكأنه في هذا الحديث علل الامتناع منه باحتمال المسخ، أو لأنه ينهش، فأشبه ابن عرس، ولكن هذا لا يعارض الأدلة الصحيحة الصريحة التي قدمناها بإباحة أكله، وكان بعض العرب يزعمون أن الضب من الأمم التي مسخت، كما يدل له قول الزاجز: قالت ـ وكنت رجلًا فطينًا ـ هذا ـ لعمر الله ـ إسرائينا
فإن هذه المرأة العربية أقسمت على أن الضب إسرائيلي مسخ. وأما الجراد: فلا خلاف بين العلماء في جواز أكله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد" اهـ. وميتة الجراد من غير ذكاة حلال عند جماهير العلماء لحديث "أحلت لنا ميتتان ودَمان" الحديث. وخالف مالك الجمهور، فاشترط في جواز أكله ذكاته، وذكاته عنده ما يموت به بقصد الزكاة، وهو معنى قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره، وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به، ولو لم يعجل كقطع جناح. واحتج له المالكية بعدم ثبوت حديث ابن عمر المذكور "أحلت لنا ميتتان" الحديث. لأن طرقه لا تخلو من ضعف في الإسناد، أو وقف، والأصل الاحتياج إلى الذكاة لعموم قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعًا. قلت: وثلاثتهم كلهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح. اهـ من ابن كثير، وهو دليل لما قاله المالكية، والله تعالى أعلم. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لكن للمخالف أن يقول: إن الرواية الموقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عنه صحيحة، ولها حكم الرفع. لأن قول الصحابي: أحل لنا، أو حرم علينا له حكم الرفع. لأنه من المعلوم أنهم لا يحل لهم، ولا يحرم عليهم، إلا النَّبي صلى الله عليه وسلم. كما تقرر في علوم الحديث، وأشار النووي في (شرح المهذب) إلى أن الرواية الصحيحة الموقوفة على ابن عمر لها حكم الرفع، كما ذكرنا وهو واضح، وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير زكاة. والمالكية قالوا: لم يصح الحديث مرفوعًا، وميتة الجراد داخلة في عموم قوله كذلك رواية أيضًا عن الإمام أحمد نقلها عنه النووي في (شرح مسلم) (وشرح المهذب)، والله تعالى أعلم. وأما الطير: فجميع أنواعه مباحة الأكل إلا أشياء منها اختلف فيها العلماء. فمن ذلك كل ذي مخلب من الطير يتقوى به ويصطاد: كالصقر والشاهين والبازي والعقاب والباشق، ونحو ذلك. وجمهور العلماء على تحريم كل ذي مخلب من الطير كما قدمنا، ودليلهم ثبوت النهي عنه في صحيح مسلم وغيره، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ إباحة أكل ذي المخلب من الطير لعموم قوله تعالى: وممن قال كقول مالك: الليث والأوزاعي ويحيى بن سعيد، وقال مالك: لم أر أحدًا من أهل العلم يكره سباع الطير، وقال ابن القاسم: لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله الرخم والعقبان والنسور والحدأة والغربان، وجميع سباع الطير وغير سباعها، ما أكل الجيف منها، وما لم يأكلها. ولا بأس بأكل الهدهد والخطاف، وروي على كراهة أكل الخطاف ابن رشد لقلة لحمها مع تحرمها بمن عششت عنده، انتهى من المواق في شرحه لقول خليل في مختصره وطير، ولو جلالة. ومن ذلك الحدأة والغراب الأبقع: لما تقدم من أنهما من الفواسق التي يحل قتلها في الحل والحرم، وإباحة قتلها دليل على منع أكلها، وهو مذهب الجمهور خلافًا لمالك، ومن وافقه كما ذكرنا آنفًا. وقالت عائشة رضي الله عنها: إني لأعجب ممن يأكل الغراب، وقد أذن صلى الله عليه وسلم في قتله، وقال صاحب "المهذب" بعد أن ذكر تحريم أكل الغراب الأبقع، ويحرم الغراب الأسود الكبير لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع. وفي الغداف، وغراب الزرع وجهان: أحدهما: لا يحل: للخبر. والثاني: يحل: لأنه مستطاب يلقط الحب فهو كالحمام والدجاج، وقال ابن قدامة في "المغني" ويحرم منها ما يأكل الجيف كالنسور والرخم وغراب البين وهو أكبر الغربان والأبقع. قال عروة: ومن يأكل الغراب، وقد سماه النَّبي صلى الله عليه وسلم فاسقًا؟ والله ما هو من الطيبات اهـ. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الظاهر المتبادر أن كل شيء أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله بغير الذكاة الشرعية أنه محرم الأكل، إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزًا لما أذن صلى الله عليه وسلم في إتلافه كما هو واضح. وقال النووي: الغراب الأبقع حرام بلا خلاف للأحاديث الصحيحة، والأسود الكبير فيه طريقان: إحداهما: أنه حرام. والأخرى: أن فيه وجهين: أصحهما التحريم. وغراب الزرع فيه وجهان مشهوران: أصحهما أنه حلال، وهو الزاغ، وهو أسود صغير، وقد يكون محمر المنقار والرجلين اهـ، منه بالمعنى في (شرح المهذب). ومن ذلك الصرد. والهدهد. والخطاف. والخفاش: وهو الوطواط. ومذهب الشافعي: تحريم أكل الهدهد والخطاف. قال صاحب "المهذب": ويحرم أكل الهدهد والخطاف. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهما، وقال النووي في "شرح المهذب" أما حديث النهي عن قتل الهدهد فرواه عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة، والهدهد والصرد" رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ذكره في آخر كتابه، ورواه ابن ماجه في كتاب الصيد بإسناد على شرط البخاري، وأما النهي عن قتل الخطاف فهو ضعيف ومرسل، رواه البيهقي بإسناده عن أي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، وهو من تابعي التابعين، أو من التابعين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن قَتل الخطاطيف"، ثم قال: قال البيهقي: هذا منقطع. قال: وروى حمزة النصيبي فيه حديثًا مسندًا إلا أنه كان يرمى بالوضع أ هـ. ومما ذكره النووي تعلم أن الصرد والهدهد لا يجوز أكلهما في مذهب الشافعي لثبوت النهي عن قتلهما، وقال النووي أيضًا: وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفًا عليه أنه قال: "لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح، ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم، قال البيهقي إسناده صحيح. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: والظاهر في مثل هذا الذي صح عن عبد الله بن عمرو من النهي عن قتل الخفاش والضفدع أنه في حكم المرفوع لأنه لا مجال للرأي فيه. لأن علم تسبيح الضفدع وما قاله الخفاش لا يكون بالرأي، وعليه فهو يدل على منع أكل الخفاش والضفدع. وقال ابن قدامة في "المغني": ويحرم الخطاف والخشاف أو الخفاش وهو الوطواط، قال الشاعر: مثل النهار يزيد أبصار الوري ورًا ويعمي أعين الخفاش
|